بعبارة واضحة ومحددة أقول إن مشروعنا الحضاري هو الاستقامة على الوحي الكتاب والسنة اللذان تضَمنا قيم الحضارة الحقيقية, فالحضارة قيم متى رُسخت في أي مجتمع فإنه يتطور وينهض وهذه القيم قد اشتمل عليها الوحي, وفي المقابل فإنه يوجد سلوكيات ضد الحضارة هذه السلوكيات كذلك قد حذر منها الوحي فالمجتمع يتجاذبه قيم تقوده للتطور وسلوكيات خاطئة تدفع به نحو الانحطاط والتخلف, ودور المصلحين هو تعزيز قيم الحضارة وتقليل السلوكيات الخاطئة
وقد انقسم دعاة التطوير إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذهبوا يبنون مشاريع وأفكار دون مرجعية محددة وهؤلاء يستفاد من طرحهم لكن لا يعتمد عليه لأن طروحاتهم متعددة وربما تكون متعارضة فمن سنأخذ بطرحه؟!, ونحن بحاجة لمشروع واحد نجتمع عليه ولا نختلف كما أن هذه الأفكار بعضها لم يخضع للتجربة ففي تطبيقه نوع من المخاطرة
أما القسم الثاني: فإنهم اقترحوا استنساخ تجربة من تجارب الأمم المتطورة بخيرها وشرها وهذا معناه أنا نأخذ القيم الحضارية من التجربة المستنسخة مع السلوكيات الخاطئة وربما وجد ضمن ما تحمله هذه التجربة أمر نغفل عنه وقد يكون فيه كارثة علينا أو حتفنا لا قدر الله ونحن لا نشعر, فالتجربة الإسرائيلية مثلا استطاعت بناء دولة قوية ومتطورة من عدة نواحي لكن هذه التجربة فيها عنصرية وظلم لفئة من الناس مما أفقدهم الأمن وهذا الظلم سبب كاف لزوال هذه الدولة كما زالت دولة الفراعنة لذات السبب وقد أدرك ذالك كثير من العقلاء وتوقعوا زوال إسرائيل في القريب العاجل إنشاء الله, والتجربة السوفيتية الشيوعية كان فيها كثير من القيم وأنتجت حضارة عظيمة انبهر بها الكثيرون لكنها كانت ضد الفطرة بما حملته من إلحاد وتحريم الملكية الفردية ومعاداة للدين فسقط الإتحاد السوفيتي وسقط معه الذين استنسخوا تجربته على الرغم من أنهم بنوا حضارات واستفادوا من التجربة السوفيتية التي استنسخوها لكنهم حملوا ما أدى إلى حتفهم مع بعض الخير الذي استنسخوه وهم لا يشعرون, أما الحضارة الغربية فإنها وإن كانت تحمل الكثير جدا من قيم الحضارة إلا أنها تعاني وبشدة من الفساد الأخلاقي الذي أهلك قوم لوط, وإني أجزم يقينا أن الفساد الأخلاقي هو فيروس ينخر في كثير من الدول الغربية من داخلها, فَمَثل الذين يدعون لاستنساخ التجربة الغربية بخيرها وشرها كَمَثل شخص رأى رجلا ثريا وناجحا في عمله لكنه عياذا بالله يسكر ويرتكب بعض المعاصي فذهب هذا الشخص يقلده في أخطاءه ظنا منه أنها سبب ثراءه والحقيقة أن نجاحه في عمله بعد توفيق الله سببه جده واجتهاده وكان ينبغي له تقليده في الجد والاجتهاد وليس في تعاطي المسكر الذي ربما يكون سبب في دخوله في دوامة الانحراف ومن ثم الهلاك و الضياع
فهل يجوز لعاقل أن يقول أن مشروعنا الحضاري هو استنساخ تجربة بخيرها وشرها حتى لو حملت هذه التجربة ما يؤدي إلى هلاكنا؟!
أما القسم الثالث من دعاة الإصلاح والتطوير: فهم الذين يريدون استقامة الأمة على الوحي الرباني الكتاب والسنة مع الاستفادة من كل التجارب لكن يبقى الكتاب والسنة هما الأصل والمرجع في تحديد قيم الحضارة التي نأخذها والسلوكيات الفاسدة التي نحذرها
قد يقول قائل إن الوحي ليس بكتاب حضارة وإنما هو كتاب هداية للآخرة فقط وجواب ذلك أن الوحي جاء بخير وشرف هذه الأمة في الدنيا والآخرة قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى منبهًا على شرف القرآن، ومحرضًا لهم على معرفة قدره: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) قال ابن عباس: شَرَفُكم. وقال تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فما من خير إلا وقد دل الوحي عليه وما من شر إلا وحذر منه (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) والآيات والأحاديث الدالة على أن الكتاب والسنة جاءت بخيري الدنيا والآخرة وأن من استقام عليهما سيتحقق له الأمن ورغد العيش أكثر من أن تحصى, وعندما نتدبر نصوص الوحي نجد أنها جاءت بهذه القيم الحضارية كقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) فالأمانة والعدل من أعظم وأهم قيم الحضارة والمجتمع الذي ترسخ فيه هاتين القيمتين العظيمتين لا بد أن يكون مجتمع متحضر وقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فالوفاء بالعقود أيضا قيمة عظيمة تبني الحضارات, ولنتأمل قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) فهذه الآية جامعة لأهم قيم الحضارة والتقدم وهي العدل والإحسان وصلة الأرحام وصلة كل ما أمر الله به أن يوصل ومحذرة من أعظم أسباب التخلف والانحطاط وهي الفواحش والمنكرات والظلم, والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول سردها فما من قيمة حضارية حقيقية إلا وقد حث عليها الوحي كالعلم والجد في العمل واستغلال الوقت وما من سلوك يهدم الحضارات إلا وقد حذر الوحي منه, وعندما كان المسلمون متمسكون بهذه القيم سادوا العالم وبنوا أعظم حضارة أما عندما تخلوا عن قيم الوحي فإنهم تخلفوا وأصبحوا في مؤخرة الأمم والأمم المتقدمة ما تقدمت إلا لأنها أخذت ببعض القيم المتقاطعة مع قيم الوحي كالعدل والأمانة والعلم, فإذا أردنا اليوم أن ننهض وتعود لنا عزتنا فبين أيدنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فلنجعلهما واقع نحياه ومنهج لبناء حضارتنا ولا يعني ذلك أنا لا نستفيد من الحضارات الأخرى بل نستفيد من الجميع ونفكر ونبدع في الأفكار لكن لا نقدم رأيا ولا تجربة على الوحي ولا نرضى بما يخالفه (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)
مسفر أحمد الغامدي
الرئيسية 
