[color=darkred]الكفاءة في النكاح [/color]الشيخ فيصل مولوي
تعتبر مسألة الكفاءة في النكاح من أكثر المسائل التي غلبت فيها العادات والأعراف، حتى جعلت كثيراً من الفقهاء يتوسعون في تفسير النصوص، أو يتساهلون في تصحيحها، من أجل تبرير العمل بالأعراف التي اعتادها الناس. والأساس الذي دفع الفقهاء إلى هذا الموقف أنّ من أهمّ مقاصد الزواج انتظام التفاهم والتعاون بين الزوجين، وهذا لا يتحقّق إلاّ بوجود قدر من التكافؤ بينهما في المسائل المهمّة في نظر الناس، بحسب الأعراف السائدة في المجتمع. ولذلك قال الدكتور عبد الستار أبو غدّة – في رسالته المقدّمة إلى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث – الدورة الثالثة عشرة- (أمور الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والبلدان والعادات والبيئات، فإذا كان العرف السائد أنّ أمراً منها لا يعتبر من متطلبات الكفاءة، فإنه يرجع إلى العرف، وهو معتبر في الشريعة. فإذا تغيرت نظرة المجتمع إلى النسب مثلاً أو الحرفة، باعتبار أنّ العمل بأي مهنة ليست محرّمة هو شرف للإنسان، فالعبرة بذلك العرف). ولعلّ هذا القول يلخّص حقيقة الموقف الشرعي عند الذين يقولون باعتبار الكفاءة من شروط النكاح.
وسأتناول مسألة الكفاءة في النكاح في المباحث التالية:
المبحث الأول: التعريف والشرح.
الكفاءة هي المماثلة والمساواة. والمقصود بها في النكاح أن يكون الزوج مساوياً لزوجته أو مقارباً لها في أمور مخصوصة تختلف حولها أنظار العلماء والمذاهب. وأهمّ هذه الأمور ما يلي:
1-الدين: والمراد به هنا التقوى والصلاح والامتناع عن المحرّمات، فلو تزوجت امرأة صالحة رجلاً فاسقاً كان قد خدعها بصلاحه ثمّ تبيّن خلاف ذلك، أو تزوجته بدون موافقة وليّها، أو زوّجها وليّها منه دون موافقتها، فلها أو لأوليائها حقّ فسخ النكاح. هذا هو مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة والمالكية وأكثر الأحناف والزيدية والجعفرية.
2-النسب: وهو معتبر لجهة الآباء عند الأحناف والشافعية والحنابلة، ولهم في ذلك تفاصيل أكثرها لم يعد مقبولاً في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، وهم يستدلّون بحديث ابن عمر: (قريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل. والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلاّ حائك أو حجام). هذا الحديث رواه البيهقي في سننه (7/134)، وقال عنه الكمال بن الهمام: (إنّ هذا الحديث ضعيف بل لا يصحّ..) ومع ذلك فإنه قال: (يستأنس بالحديث الضعيف في ذلك) . وأخرجه الحاكم دون ذكر قريش كما في نصب الراية للزيلعي (3/197) ونقل عن ابن عبد الهادي أنه أعلَّ إسناده بالانقطاع. وقوله (قريش بعضها لبعض أكفاء) أورده ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/424) ونقل عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر . ونقل السيد سابق في فقه السنّة (2/147) قول الدارقطني في الملل عن هذا الحديث: لا يصحّ. وقول ابن عبد البرّ: هذا منكر موضوع. وذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/146) كلّ روايات هذا الحديث عند الحاكم وابن عبد البرّ والبزار، كما ذكر العلل التي اعتمد عليها العلماء في تضعيف هذه الروايات.
عدم اعتبار النسب في الكفاءة:
لكن يرى المالكية وكثير غيرهم أنّ النسب لا يعتبر من الكفاءة. قيل لمالك: إنّ بعض هؤلاء القوم قد فرّقوا بين عربية ومولى، فأعظم ذلك إعظاماً شديداً وقال: أهل الإسلام كلّهم بعضهم لبعض أكفاء، لقول الله تعالى في التنزيل: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وكان سفيان الثوري يقول: لا تعتبر الكفاءة في النسب لأنّ الناس سواسية . قال صلى الله عليه وآله وسلّم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى) أخرجه أحمد (5/411) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح . ونقل الشوكاني عن عمر وابن مسعود ومحمّد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز تأييد هذا المذهب، ورجّحه ابن القيم فقال: (.. فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وآله وسلّم اعتبار الكفاءة في الدين أصلاً وكمالاً، فلا تزوّج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر. ولم يعتبر القرآن والسنّة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة ولا غنى ولا حرمة، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات..) . والجدير بالذكر أنّ أمّ المؤمنين السيدة عائشة لا تشترط الكفاءة بين الزوجين لا في النسب ولا في غيره، وهي تجيز زواج القرشي بغير القرشية، وقالت: (إنّ أبا حذيفة بن عتبة وكان ممّن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تبنّى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار) رواه البخاري في باب النكاح.
رأينا في ذلك:
والذي نراه أنه مع وجود أدلّة شرعية على اعتبار الكفاءة في عقد النكاح، فإنه لا يصحّ إدخال النسب في هذه الكفاءة (لأنّ مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنَسبية، وإعلان حجّة الوداع واضح أنّ الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى) . ولعلّ من أهمّ مقاصد هذه الشريعة إلغاء التفاخر بالأنساب، وإقرار التمايز بالعمل الصالح وبالتقوى. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في خطبته المشهورة عند باب الكعبة يوم فتح مكّة المكرّمة: (يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب، ثمّ تلا الآية: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وفي مثل هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله عزّ وجلّ أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي. أنتم بنو آدم وآدم من تراب. ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن). أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والعبية: الكبر والنخوة. الجعلان: جمع جعل وهو دابة صغيرة. الآنف: جمع أنف.
وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة تشهد لهذا المعنى، وهي وإن لم تبلغ درجة الصحّة، فهي على الأقلّ أحسن سنداً من الأحاديث التي يحتجّ بها الفقهاء في اعتبار النسب في الزواج، منها:
-حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد وإنما أنتم ولد آدم. طفّ الصاع لم يملؤه. ليس لأحد فضل على أحد إلاّ بالدين والعمل الصالح...) .
-وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً. فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلاّ أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتّقون؟) .
-وعندما اختلف أبو ذر مع بلال، وقال له: يا ابن السوداء. غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقال لأبي ذرّ: أتعيرّه بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهلية، فندم أبو ذر ووضع خدّه على الأرض، وقال لبلال: قم فطأ عليه.
3-المال واليسار:
يرى الأحناف والحنابلة في إحدى الروايتين وبعض الشافعية، أنّ يسار الزوج يعتبر من عناصر الكفاءة في الزواج، لأنّ التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، ولأنّ على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، ولإخلاله بنفقتها ونفقة أولادها. والمعتبر في اليسار عندهم قدرة الزوج على مهر المثل وعلى النفقة، ولو لم يكن مساوياً لها في المال. ويروى عن أبي حنيفة ومحمّد أنّ المساواة في الغنى بين الزوج والزوجة شرط لتحقّق الكفاءة. كما يروى عن أبي يوسف أنّ المعتبر في يسار الزوج قدرته على النفقة فقط، لأنّ الناس عادة يتساهلون في المهر، ويعتبر الزوج قادراً عليه بيسار أبيه. والأصحّ عند الشافعية أنّ اليسار لا يعتبر في الكفاءة، لأنّ المال غاد ورائح، ولا يفتخر به أهل المروءات. والرواية الثانية عن الإمام أحمد بن حنبل أنّ اليسار ليس شرطاً في الكفاءة، لأنّ الفقر شرف الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: (أللهمّ أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً) . ويرى ابن عبّاس عدم اعتبار المال في الكفاءة، وقد سئل عن الكفء في النكاح فقال: الدين والنسب. (ابن أبي شيبة 1/233).
رأينا في ذلك:
والذي نراه أنّ المال لا يصحّ اعتباره - في خصال الكفاءة- شرطاً يسمح بطلب فسخ الزواج وذلك للأدلّة التالية:
أ-قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور 32. والأيم هو الذي لا زوج له من الرجال أو النساء. والمعنى كما يقول المفسّرون: لا تمتنعوا من التزويج بسبب الفقر (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وهذا وعد بالغنى للمتزوجين. قال الزجاج: حثَّ الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر... ويدلّ عليه قوله تعالى: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء). وقد نقل القرطبي في تفسير هذه الآية قول ابن مسعود: (التمسوا الغنى بالنكاح)، وقول عمر: (عجبي ممّن لا يطلب الغنى بالنكاح)، واعتبر هذه الآية دليلاً على تزويج الفقير، وليس للزوجة فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه هكذا. ونقل الشوكاني في نيل الأوطار (4/30) عن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قوله: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى). وعن عبد الرزاق في المصنّف وعبد بن حميد عن قتادة قول عمر بن الخطاب: (ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد)، وعن البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أنكحوا النساء، فإنهنّ يأتينكم بالمال). فالله تعالى شرع التزويج رغم وجود الفقر، بل شجّع عليه ووعد بأن يكون الزواج سبباً للغنى، وهذا يقطع بعدم فسخ الزواج بسبب الفقر، وبعدم اعتبار المال أو اليسار من خصال الكفاءة.
ب-وقد روى البخاري – في باب النكاح- عن سهل رضي الله عنه قال: (مرَّ رجل غني على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفّع أن يشفّع، وإن قال أن يسمع. قال: ثمّ سكت، فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفّع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا). ومفهوم هذا النصّ واضح أنّ الفقر ليس سبباً للامتناع عن تزويجه، أو لفسخ الزواج بعد حصوله. هذا ما فهمه الإمام البخاري نفسه عندما جعل عنوان هذا الباب (باب الأكفاء في الدين)، واعتبر الكفاءة المعتبرة في النكاح هي الدين.
4-الحرفة: هي نوع العمل الذي يطلب به الرزق كالزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غيرها. مرَّ معنا أنّ المالكية لا يعتبرون الكفاءة إلاّ في الدين. وقد اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الثلاثة في مسألة اعتبار الحرفة من خصال الكفاءة. فروي عن أبي حنيفة وأحمد: (أنّ الحرفة غير معتبرة في الكفاءة في النكاح) كما روي عن الشافعي: (أنّ الكفاءة في الدين) مختصر البوطي. والرواية الثانية عن أحمد أنّ الحرفة (أو الصناعة) شرط في الكفاءة، واستند إلى الحديث: (العرب بعضهم لبعض أكفاء إلاّ حائكا أو حجاماً..) قيل لأحمد: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. وروي عن أبي يوسف عدم اعتبار الكفاءة في الحرفة، إلاّ أن تكون فاحشة. ومع ذلك فالراجح في المذاهب الثلاثة اعتبار الكفاءة في الحرفة رغم الاختلاف بينهم في التفصيل، لكنّهم متّفقون على اعتبار العرف في ذلك.
5-وقد اعتاد الفقهاء في مبحث خصال الكفاءة أن يذكروا مسألتين:
أ-الحرية: فالعبد ليس كفء للحرّة، ولا أرى حاجة لذكر هذه المسألة بعد انتهاء الرقّ في جميع بلاد العالم.
ب-السلامة من العيوب وسنبحث هذه المسألة عند الحديث عن فسخ الزواج أو التفريق بين الزوجين.
المبحث الثاني: الحكم الشرعي في الكفاءة.
لقد وقع خلاف كبير بين المذاهب، وداخل كلّ مذهب حول الحكم الشرعي للكفاءة ونحن نلخّص أولاً الأقوال الواردة في هذا الموضوع ثمّ نبيّن ما نميل إليه، فنقول:
الرأي الأول: الكفاءة شرط في صحّة عقد النكاح:
ذهب الحنفية- في رواية الحسن المختارة للفتوى عندهم- وبعض المالكية، ورواية عن أحمد وأحد قولين عند الشافعية، إلى أنّ الكفاءة شرط في صحّة النكاح، ومعنى ذلك أنّ العقد لا يصحّ أصلاً إذا لم يوجد شرط الكفاءة:
روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: (أنّ نكاح البالغة العاقلة، إذا زوجت نفسها من غير الكفء، نكاح لا يجوز) وعلّلوا ذلك بأنه: (كم من واقع لا يرفع) .
ذهب النخعي وابن فرحون وابن بشير من المالكية إلى: (منع تزويج المرأة من الفاسق ابتداءً، وأنه ليس لها ولا لوليها الرضا بذلك، لأنّ مخالطة الفاسق ممنوعة، وهجره واجب شرعاً فكيف بخلطة النكاح؟ فإذا وقع وتزوجها لزم فسخه أيضاً) .
قال أحمد: (إذا تزوّج المولى العربية فرِّق بينهما، وقال في الرجل يشرب الشراب – أي الخمر- ما هو بكفء لها يفرّق بينهما. وقال: لو كان المتزوّج حائكاً فرّق بينهما لقول عمر رضي الله عنه: لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء. ولأنّ التزوّج مع فقد الكفاءة تصرّف في حقّ من يحدث من الأولياء بغير إذنه، فلم يصحّ، كما لو زوجها بغير إذنها) .
وعند الشافعية: (أنه لو زوج المرأة أحد أوليائها المستوين في الدرجة بغير الكفء برضاها، دون رضى باقي الأولياء المستوين، لم يصحّ التزويج به، لأنّ لهم حقاً في الكفاءة فاعتبر رضاهم. وفي قول: يصحّ العقد ولهم الفسخ) .
الرأي الثاني: الكفاءة شرط لزوم لعقد النكاح:
معنى ذلك أنه إذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء بدون موافقة وليها، أو إذا زوجها وليها من غير كفء بدون موافقتها، فلكلّ منهما حقّ طلب فسخ العقد. فهو عقد صحيح لكنّه يقبل الاعتراض والفسخ لأنّ الكفاءة حقّ للمرأة والأولياء، فإن رضوا بإسقاطها فلا اعتراض عليهم. هذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية، وهو الأصحّ عند الحنابلة كما قال في المقنع والشرح .
فعند الشافعية: (الكفاءة المعتبرة في النكاح دفعاً للعار، وليست شرطاً في صحّة النكاح، بل هي حقّ للمرأة والولي، فلهما إسقاطها..) ولو زوّجها أحد الأولياء المستوين بغير كفء برضاها دون رضاهم لم يصحّ، وفي قول يصحّ ولهم الفسخ. والظاهر أنّ الشربيني يرجّح القول الثاني أنّ العقد يصحّ ولهم الفسخ، إذ يشير أنّ هذا القول (نصّ عليه في الإملاء) وأنّ (النقصان يقتضي الخيار لا البطلان) .
وعند الحنفية: (ينعقد نكاح العاقلة البالغة برضاها، وإن لم يعقد عليها ولي... ثمّ في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء، ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء) ويقيد الحنفية حقّ الاعتراض للولي بما إذا لم تلد الزوجة من الزوج، (أما إذا ولدت فليس للأولياء حقّ الفسخ، كي لا يضيع الولد عمّن يربيه) .
وعند الحنابلة: (ولا يشترط الكفاءة، فلو زوجت بغير الكفء صحّ، وكذا برضى بعضهم على الأصحّ. ولمن لم يرض الفسخ متراخياً، ذكره القاضي وغيره. وعنه: هي شرط واختاره الخرقي وجماعة) .
وقد استدلّ هؤلاء الفقهاء على مذهبهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه زوّج بناته ولا أحد يكافئه، وبأنه أمر فاطمة بنت قيس وهي قرشية أن تنكح مولاه أسامة بن زيد فنكحها بأمره (مسلم)، وأنه زوَّج زيد بن حارثة ابنة عمّه زينب بنت جحش الأسدية (الطبري في تفسيره). كما استدلّوا بأنّ الكفاءة لا تخرج عن كونها حقاً للمرأة والأولياء فلم يشترط وجودها .
الرأي الثالث: الكفاءة شرط لزوم لعقد النكاح، لكنها محصورة بالدين والحرية والسلامة من العيوب، ولا يدخل فيها النسب والحرفة والمال.
هذا هو الرأي المعتمد عند المالكية: (الكفاءة... والمراد بها المماثلة في ثلاثة أمور على المذهب: الحال والدين والحرية) والمقصود بالحال: السلامة من العيوب الموجبة للرد. وبالدين: كونه ذا ديانة احترازاً من أهل الفسوق. وبالحرية: أن لا يكون عبداً رقيقاً.
ويجوز للزوجة وللولي ترك الكفاءة والرضا بعدمها (فإن لم يرضيا معاً، فالقول لمن امتنع منهما، وعلى الحاكم منع من رضي منهما. وليس للأب جبر البكر على فاسق أو ذي عيب، فإن تزوجها الفاسق أو ذو العيب أو العبد، فلها وللولي الردّ والفسخ) يقول الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير شارحاً هذه المسألة: (أنه إذا وقع وتزوجها الفاسق ففي العقد ثلاثة أقوال:
الأول: لزوم فسخه بفساده وهو ظاهر قول اللخمي وابن بشير.
والثاني: أنه صحيح وشهره الفاكهاني.
والثالث لأصبغ: إن كان لا يؤمن منه رده الإمام وإن رضيت به...
والذي قرره في الحاشية أنّ المعتمد القول بصحّة العقد الذي شهره الفاكهاني.
الرأي الرابع: الكفاءة غير معتبرة في عقد النكاح:
هذا هو رأي الكرخي والجصاص من الأحناف، وهو قول في مذهب الحنابلة رجّحه ابن قدامة فقال: (..والصحيح أنها – الكفاءة- غير مشترطة، وما روي فيها يدلّ على اعتبارها في الجملة ولا يدلّ على اشتراطها) المغني (6/481). وذكر أنّ هذه الرواية عند أحمد هي: (قول أكثر أهل العلم، روي نحو هذا عن عمر وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وعبيد بن عمير وحماد بن أبي سلمان وابن سيرين وابن عون ومالك والشافعي وأصحاب الرأي...) المغني (6/480). ونسب هذا القول أيضاً إلى سفيان الثوري والحسن البصري (الموسوعة الفقهية الكويتية – باب كفاءة 34/269)، وهو رأي ابن حزم الظاهري الذي يقول: (وأهل الإسلام كلّهم إخوة، لا يحرم على ابن زنجية نكاح ابنة الخليفة الهاشمي..) المحلى (10/24). ويستدلّ أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أ-النصوص العامّة كقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات 10، (فانكحوا ما طاب لكم من النساء..) النساء 3، (وألّ لكم ما وراء ذلكم..) النساء 24، (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم..) الحجرات 3، (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى..) .
ب-مجموعة من الأحاديث الصحيحة التي تؤّكد عدم اعتبار الكفاءة في الزواج منها:
-حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: (يا بني بياضة، انكحو أبا هند وانكحوا إليه. قال: وكان حجاماً) وأبو هند هو مولى بني بياضة وليس منهم. أخرجه أبو داود (2/579) والحاكم (2/164) وصححه ووافقه الذهبي. ولو كانت الكفاءة معتبرة لما أمر رسول الله بهذا الزواج.
-حدبث عائشة: (أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممّن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار) رواه البخاري.
-وقد (أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه فنكحها بأمره) متّفق عليه. وزوّج أباه زيد بن حارثة ابنة عمّته زينب بنت جحش الأسدية. رغم أنها امتنعت عن ذلك لنسبها في قريش ولأنّ زيداً كان عبداً وقالت: أنا خير منه حسباً، فنزل قول الله عزّ وجلّ: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب 36. فرضيت وسلّمت. (أسباب النزول للسيوطي) ، وذكر هذه الرواية الطبراني بسند صحيح.
-وقد خطب بلال رضي الله عنه إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قل لهم: إنّ رسول الله يأمركم أن تزوجوني. أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالتزويج رغم عدم الكفاءة.
ج-وأنّ جميع الأحاديث الواردة صراحة في موضوع اعتبار الكفاءة لم تبلغ درجة يعتدّ بها عند علماء الحديث، وأهمّها ما يلي:
(تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم) السنن الكبرى للبيهقي (7/133)، وسنن ابن ماجة (2/477)، الدارقطني (3/299)، والحاكم (2/163) وجميع هذه الروايات فيها: الحارث بن عمران المدني ضعيف، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي. والحديث الذي رواه لا أصل له. قال ابن عدي: والضعف على رواياته بيِّن. وقال الدارقطني: متروك.
(ألا لا يزوّج النساء إلاّ الأولياء، ولا يزوّجن إلاّ من الأكفاء) رواه البيهقي (7/211) عن مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة، وقال عنه: ضعيف بمرة. ونقل عن علي أنّ مبشر بن عبيد متروك الحديث، ونقل عن الإمام أحمد أنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجّة. وقال ابن حبّان: مبشر بن عبيد يروي عن الثقات الموضوعات. وقال ابن القطان: الحجاج بن أرطأة ضعيف، ويدلس عليه الضعفاء .
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان : (هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن قوي بتضافر الشواهد، ومنها ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء). وقد نقل مثل ذلك الفقيه المحدّث قاسم قطلوبغا عن ابن الهمام (فتح القدير 2/417). هذا الأثر عن عمر أخرجه البيهقي في سننه (7/215) والدارقطني في سننه (3/206)، وهو وإن وصل إلى درجة الحسن، إلاّ أنه ليس دليلاً على اعتبار الكفاءة شرطاً في النكاح، إذ من المعروف أنّ حقّ الأمير الالزام في المسائل الاجتهادية، وقد يكون من رأي عمر اعتبار الكفاءة شرطاً للنكاح مراعاة للواقع الاجتماعي، ولأنّ العرب كانوا يتعيرون أو يتشرفون بالأنساب، ومن المعروف أنّ الفقهاء الذين يعتبرون الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح يعتبرونها تابعة لأعراف الناس بحسب مجتمعاتهم.
(يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا آذنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً) أخرجه البيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد. وأخرجه أيضاً ابن ماجة وابن حبّان والترمذي وقال: حديث غريب حسن. لكن من الواضح أنّ هذا الحديث لا يمكن أن يستنتج منه إلاّ الحضّ على تزويج الأيم إذا جاءها الكفء. أما اعتبار الكفاءة شرطاً في صحّة الزواج أو لزومه فهو أمر آخر. كما أنه يمكن اعتبار الكفاءة هنا محصورة بالدين كما يرى المالكية وكثير من الفقهاء.
يؤيّد ذلك أنّ الصلاة في أول الوقت فضيلة لكن ليست شرطاً في صحّة الصلاة، وكذلك صلاة الجنازة لمن حضرها، والإسراع بالجنازة لدفن الميت كلّها من الفضائل لكنّها ليست فرائض ولا شروطاً.
(العرب بعضهم لبعض أكفاء، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل، إلاّ حائكاً أو حجاماً) وقد ذكرنا تضعيف علماء الحديث لجميع الروايات الواردة في هذا المعنى، وقول بعضهم أنه منكر موضوع، فلا حاجة لإعادتها.
ح-اما الأحاديث التي لا تنصّ صراحة على الكفاءة، لكن العلماء استنتجوا منها اعتبار الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح، فمنها الصحيح الذي قد يدلّ على ذلك، وهذه كلّها محصورة في الدين والخلق، ومنها غير الصحيح الذي يحتمل أنه إشارة إلى اعتبار الكفاءة في الزواج، أو اعتبارها في غير ذلك. من هذه الأحاديث:
(إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كيبر) وقد ذكرنا سابقاً روايات هذا الحديث، ونشير هنا إلى أنّ كثيراً من الفقهاء يعتبرون هذا الحديث دليلاً على اعتبار الكفاءة في الزواج. وهو كما نرى حضّ شديد على تزويج صاحب الدين والخلق، وتهديد لمن لم يفعل ذلك، لكنّه لا يصحّ دليلاً على اعتبار الكفاءة شرطاً لصحّة الزواج أو للزومه.
حديث فاطمة بنت قيس: (إنّ أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته) فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الأمر إليها، فقالت: (قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء) .
لكن الاستدلال بهذا الحديث غير صحيح، لأنّ ابن عمّ البنت عادة كفء لها، وبالتالي فإنّ كلام فاطمة لا ينسجم مع شروط الكفاءة عند من يقول بها. ومن الواضح أنّ الأب هنا زوّج ابنته بدون رضاها، فيمكن أن يكون جَعْلُ الأمر إليها لأنّ موافقة المخطوبة شرط في صحّة الزواج أو لزومه، وليس لعدم وجود الكفاءة. يؤيد هذا أنّ علماء الحديث يذكرون هذه القصّة وأمثالها في باب الإجبار والاستئمار وضرورة موافقة المخطوبة على الزواج من خاطبها.
(إنّ الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار) . وقد اعتمد بعض الفقهاء على هذا الحديث لاعتبار أنّ غير الهاشمي والمطّلبي ليس كفؤاً لباقي قريش. وواضح أنّ النصّ لا يساعد على ذلك, لأنّه أصلاً يتعلّق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وهو يؤكّد أنه خيار من خيار من خيار، فكيف يعتبر الخيار الثالث غير مكافئ للثاني والثاني غير مكافئ للأول، وليس في النصّ ما يشير إلى ذلك، بل الحديث يصف الجميع بأنهم خيار.
حديث فاطمة بنت قيس أنّ معاوية وأبا جهم خطباها، فاستشارت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد) فنكحته . وكلّ ما فيه أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم ينصحها بالزواج من معاوية لأنه فقير لا مال له، وهي قبلت منه هذه النصيحة. وهذا يؤكّد اعتبار قدرة الخاطب المالية عند الموافقة على الزواج منه، لكن ليس فيه ما يدلّ على اشتراط ذلك لصحّة الزواج أو لعدمه. والحديث نصّ واضح في عدم الاعتداد بالنسب. ففاطمة قرشية وهي من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وفضل وكمال، وأسامة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأبوه كذلك مولى، وقد قدّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على أبي جهم ومعاوية وهما أكفاءها من قريش. ولم يطلب من أحد من أوليائها إسقاط حقّه.
(الحسب المال والكرم التقوى) . وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى يعتمد عليها الفقهاء للقول أنّ الكفاءة في المال أو اليسار شرط لزوم لصحّة النكاح، ومن الواضح أنّ هذا الحديث – وأمثاله- لا يصحّ دليلاً على ذلك، وأقصى ما فيه اعتبار المال مما يرفع حسب الرجل، وليس فيه اعتبار أنّ الحسب أو المال يمكن أن يكون أو لا يكون شرطاً في النكاح.
حديث بريرة، وقد وردت حوله روايات أكثرها صحيح وأغلبها عن عائشة وخلاصتها: أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود اسمه مغيث، وأنها اعتقت، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن تمكث عنده أو تفارقه. وفي رواية عند مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي قالت عائشة: (ولو كان حراً لم يخيرها). وفي رواية لأبي داود: (إن قربك فلا خيار لك). وفي رواية عند الخمسة: (كان زوج بريرة حراً، فلما اعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم). وفي رواية عند الدارقطني أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لبريرة لما أعتقت: (قد عتق بضعك معك فاختاري). وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار رواية أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لبريرة: (ملكت نفسك فاختاري) دون أن يبيّن مصدر هذه الرواية. والفقهاء متّفقون على أنّ بريرة اعتقت، وعلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيّرها فاختارت نفسها. وهم مختلفون: هل كان زوجها حراً أم عبداً عندما أعتقت؟ وذلك بسبب الاختلاف بين الروايات.
فأكثر العلماء يقولون: أنه كان عبداً، وبعضهم يقول أنه كان حراً.
ويترتّب على ذلك اختلافهم فيما إذا كان الزوج حراً هل يثبت الخيار لها بعد ان أصبحت حرّة أم لا؟
فأكثر العلماء يقولون: لا يثبت لها الخيار، لأنّ العلّة في الفسخ عدم وجود الكفاءة، وهذه العلّة تنتفي إذا كان الزوج حراً.
وذهب الشعبي والنخعي والثوري وأحمد في أحد قولين والحنفية إلى أنه يثبت الخيار ولو كان الزوج حراً، واستدلوا على ذلك بالروايات التي تقول أنه كان حراً، وبالروايات التي تقول: (ملكت نفسك فاختاري)، (وقد عتق بضعك معك فاختاري). وظاهر هذه الروايات يشير إلى أنّ سبب التخيير هو ملكها لنفسها، وذلك مما يستوي فيه الحرّ والعبد. ويظهر أنّ ابن القيم يرجّح هذا الرأي لأنّ (السيّد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق، فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البضع، فلا يملك عليها إلاّ باختيارها. ولذلك خيّرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها، وبين أن تفسخ نكاحه).
يقول الإمام الشافعي في رواية البويطي: (أصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة، وكان زوجها غير كفء لها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) .
لكن هذا الاستدلال من قبل الإمام الشافعي بحديث بريرة لاعتبار الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح يناقش من جهتين:
الأولى: أنّ مسألة الكفاءة هنا مبنية على كونه حراً أو عبداً، وهذه مسألة خلافية كما ذكرنا، ورغم أنّ الأرجح أنه كان عبداً إلاّ أنّ الاحتمال الآخر قائم، ومع الاحتمال يبطل الاستدلال.
الثانية: لو سلّمنا أنه كان عبداً، فإنّ الكفاءة بينهما لهذه الجهة كانت موجودة وقت العقد، ولا اعتبار لزوالها بعد ذلك. (هذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة. فلو كان الزوج عند عقد النكاح مستوفياً لخصال الكفاءة ثمّ زالت هذه الخصال أو اختلفت، فإنّ العقد لا يبطل بذلك) . إلاّ أنّ الشافعية يستثنون من ذلك حالة العتق تحت رقيق كما حصل لبريرة. جاء في الفتاوى الهندية في فقه الحنفية: (ثمّ الكفاءة تعتبر عند ابتداء النكاح، ولا يعتبر استمرارها بعد ذلك، حتى لو تزوّج وهو كفء، ثمّ صار فاجراً داعراً لا يفسخ النكاح).
المعمول به اليوم في بعض البلاد الإسلامية:
-كثير من البلاد الإسلامية تعتمد في قوانينها الشرعية المعاصرة أنّ الكفاءة شرط للزوم النكاح. وقد كان هذا هو المقرّر في قانون حقوق العائلة العثماني الصادر عام 1917 والذي لا يزال سارياً في لبنان بالنسبة للمسلمين السنّة. وتنصّ المادة 45 منه على ما يلي: (يشترط في لزوم النكاح أن يكون الرجل كفئاً للمرأة في المال والحرفة وأمثال ذلك. والكفاءة في المال أن يكون الزوج مقتدراً على إعطاء المهر المعجّل وعلى القيام بنفقة الزوجة. والكفاءة في الحرفة أن تكون تجارة الزوج أو خدمته التي سلكها مقاربة في الشرف لتجارة ولي الزوجة أو خدمته). كما تنصّ المواد التالية (47-48-49) على حقّ الزوجة أو الولي في (طلب فسخ النكاح لعدم الكفاءة).
-وينصّ قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام 1953 على أنّه: (يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفؤاً للمرأة) م26، وعلى أنه: (إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفؤاً لزم العقد، وإلاّ فللولي طلب فسخ النكاح) م27، وعلى أنّ: (العبرة في الكفاءة لعرف البلد) م28، وعلى أنّ: (حقّ الكفاءة ملك للزوجة وللولي) م29، وعلى أنه: (يسقط حقّ الفسخ لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة) م30.
-ولم تذكر (مدونة الأسرة) في المغرب الصادرة بالقانون رقم (7003) عام 2004، الكفاءة لا كشرط صحّة، ولا كشرط لزوم. والظاهر أنها اكتفت بذكر العيوب التي تبرّر طلب إنهاء الحياة الزوجية من قبل الزوجين (م107). أما اشتراط الكفاءة في الحرية فلم يعد لها فائدة بعد انتهاء نظام الرقّ. وأما الكفاءة في الدين فالظاهر أنها تركت لتراضي الزوجين بدون حاجة للنصّ عليها.
-وقد نصّ قانون الأسرة اليمني على أنّ: (الكفاءة معتبرة في الدين والخلق، وعمادها التراضي، ولكلّ من الزوجين طلب الفسخ لانعدام الكفاءة) م46.
-وقد نصّ قانون الأحوال الشخصية في قطر على أنّ: (الكفاءة شرط في لزوم الزواج، والعبرة فيها بالصلاح في الدين والخلق عند العقد) م33، وأنها: (حقّ خاص للمرأة والولي) م34، وأنه: (يسقط حقّ طلب الفسخ لانتفاء الكفاءة بحمل الزوجة، أو انقضاء سنة على عقد الزواج) م37.
رأينا في مسألة الكفاءة
في ضوء ما ذكرنا يمكننا تلخيص رأينا في مسألة الكفاءة في النكاح ضمن النقاط التالية:
1-ليس هناك دليل نقلي يبرّر اعتماد الكفاءة كشرط لصحّة عقد النكاح أو لزومه. وأكثر الأحاديث الواردة في ذلك لم تبلغ درجة الصحّة، وما كان منها صحيحاً جاءت دلالته على المطلوب ضعيفة.
2-الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المسألة تحصر الكفاءة بالدين والخلق والحرية. وبما أنّ الرقّ قد انتهى في هذا العصر، فإنّ الكفاءة التي يمكن اعتبارها في عقد النكاح هي كفاءة الدين والخلق، هذا هو مذهب المالكية، وأكثر علماء الحديث يميلون إلى هذا الرأي وفي مقدّمتهم البخاري الذي جعل عنوان هذا الباب في صحيحه: (باب الأكفاء في الدين)، ومسلم الذي جعل عنوان هذا الباب في صحيحه أيضاً: (في نكاح ذات الدين). والترمذي الذي عنون: (باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)، وأبو داود: (باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين)، وابن ماجه جعل عنوانه: (باب الأكفاء) لكنّه لم يذكر من خصال الكفاءة إلاّ الخلق والدين. ولا شكّ أنّ الجمهور الأكبر من الفقهاء ومن جميع المذاهب يقولون باعتبار الكفاءة في الدين والخلق، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.
لكن جميع هذه الأحاديث تؤكّد ضرورة اعتبار الكفاءة في الدين والخلق عند الإقدام على النكاح، وليس فيها ما يشير إلى اعتبار الكفاءة شرطاً لصحّة العقد أو لزومه.
3-الأدلّة النقلية في القرآن الكريم والسنّة الصحيحة، والمبادئ العامّة، ومقاصد الشريعة الإسلامية، وبعض النصوص الخاصّة المتعلّقة بالنكاح وبالكفاءة، كلّها تتضافر على عدم اعتبار النسب أو المال أو الحرفة كشروط في صحّة عقد النكاح أو لزومه. أما ما توافق عليه بعض الفقهاء في هذا المجال فهو نتيجة لمراعاة أعراف الناس ومسايرة عاداتهم فيما لا يخالف المبادئ العامّة، لكنّ بعضهم وقع في مثل هذه المخالفة.
4-بعض الفقهاء يقول أنّ الجمهور يعتمد الكفاءة في النسب أو المال أو الحرفة كشرط لصحّة النكاح أو لزومه، هذا الكلام الشائع في كتب الفقهاء غير دقيق، إذ في كلّ مذهب خلاف كبير حول هذه المسائل، وتكاد لا تجد مذهباً اتّفق فقهاؤه على رأي واحد. فعند أحمد روايتين والصحيح عدم الاشتراط، والرواية عن الشافعي أنّ الكفاءة في الدين فقط. وعند الأحناف خالف الكرخي والجصاص. فضلاً عن أنّ المالكية لا يعتبرون الكفاءة إلاّ في الدين.
5-جميع الفقهاء الذين يعتبرون الكفاءة شرطاً في لزوم عقد النكاح يربطونها بأعراف الناس، لأنّ الدليل المعتمد عندهم – في غياب النصوص الصحيحة- هو الحرص على انتظام الحياة الزوجية، وهذا لا يتحقّق إلاّ عند مراعاة الأعراف في الكفاءة بين الزوجين. ولذلك فهم يقولون: أنه إذا تغيّرت الأعراف، ولم يعد النسب معتبراً فإنه لا يعود شرطاً للكفاءة. وكذلك اختلف الأحناف حول اعتبار الكفاءة في المال، وهل يشترط فيها القدرة على المهر فقط أم على المهر والنفقة، وذلك بناءً على الاختلاف في أعراف الناس.كما قالوا بأنّ الكفاءة في الحرفة تتغيّر حسب الأعراف، وقد يعتبر الناس إحدى الحرف دنيئة، بينما يعتبرها غيرهم شريفة.
6-الأعراف اليوم تغيرت كثيراً سواء في البلاد العربية أو الإسلامية أو الغربية، ولم تعد الأنساب خالصة كما كانت سابقاً، ولم يعد التفاخر بها مقبولاً. كما اختلفت النظرة إلى كثير من الحرف التي كانت تعتبر دنيئة، وأصبح العمل في أي حرفة شرف لصاحبها – ما لم تكن حراماً-. وقد كان لشيوع الوعي الإسلامي أكبر الأثر في تعديل الأعراف، كما أنّ الأعراف المعاصرة ساهمت في ذلك. يضاف إلى هذا أنّ ثلث المسلمين اليوم يعيشون كأقليات في بلاد غير إسلامية، ويتأثرون بأعرافها، كما أنّ المسلمين أنفسهم شاع بينهم التزاوج على اختلاف الجنسيات مما يجعل اعتبار النسب في الكفاءة نادراً جداً.
7-بناءً على ذلك فإننا نرى حصر اعتبار الكفاءة بالدين والخلق.
-فهذا القدر من الكفاءة يكاد ينعقد عليه الإجماع.
-وتؤيده نصوص صريحة صحيحة سبق أن ذكرناها مع تخريجها.
-وتشهد له المبادئ العامّة الحاكمة، والمقاصد الشرعية.
-ولعدم وجود دليل نقلي صحيح على اعتبار سائر خصال الكفاءة.
-ولأنّ اعتبار خصال النسب والحرفة والمال في الكفاءة بناه الفقهاء على دليل عقلي هو الحرص على انتظام الحياة الزوجية، وربطوه بالأعراف. وقد تغيّرت اليوم هذه الأعراف.
8-كما نرى اعتبار (الكفاءة في الدين والخلق) من الأحكام التوجيهية، وليست من شروط لزوم النكاح أو صحّته، لأننا نعتبر أنّ موافقة الزوجة نفسها شرط في صحّة عقد النكاح، وموافقة وليها شرط في لزومه، وهذا كاف لتحقيق المقصود فإنّ موافقة الزوجة أو الولي قد تبنى على وجود الكفاءة أو على أي سبب آخر. وهذا ما سنشرحه فيما بعد.
فيكفي في رأينا أن يكون للزوجة حقّ طلب إبطال الزواج إذا تمّ بدون موافقتها، وأن يكون للولي حقّ طلب فسخ الزواج لأي سبب مشروع إذا لم يكن موافقاً عليه قبل العقد، والقضاء هو الذي يحسم الأمر بإمضاء عقد النكاح أو إبطاله أو فسخه.
9-الكفاءة في عقد النكاح في الدول الأوروبية:
إنّ عقود النكاح التي تجري في الدول الأوروبية، وسائر الدول غير الإسلامية يمكن تصنيفها ثلاثة أنواع:
الأول: عقود تجري وفق القوانين الشرعية لإحدى الدول الإسلامية. إنّ حكم الكفاءة في هذه العقود يعرف من خلال القانون الذي يحكمها. ولا نحتاج إلى البحث فيه.
الثاني: عقود تجري بين المسلمين، بعيداً عن أي قانون رسمي سواء كان قانوناً شرعياً أو وضعياً، وتسمى عقوداً عرفية.
ومع أنّ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث نصح المسلمين أن لا يلجأوا لهذه العقود، وأفتى بمنعها، إلاّ أنّنا نقول: انه على افتراض حصول مثل هذا العقد، فإنّ مسألة الكفاءة تعتبر حكماً توجيهاً لا أكثر، يجدر بالطرفين مراعاتها حتى تتحقّق مقاصد النكاح، خاصّة لجهة الكفاءة في الدين والخلق. ولا يمكن اعتبارها شرط صحّة ولا شرط لزوم، لعدم وجود القاضي الشرعي الذي يمكن الجوء إليه لفسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة.
الثالث: عقود تجري بين المسلمين وفق القوانين المدنية الأوروبية. ومن المعروف أنّ الكفاءة غير موجودة في هذه القوانين لا كشرط صحّة ولا كشرط لزوم، فلم يبق إلاّ أن يحرص الطرفان على مراعاتها عند الاتفاق على الزواج.
10-بناءً على هذه الدراسة، وعلى واقع المسلمين في أوروبا، أقدّم هذا الاقتراح كمشروع قرار يتعلّق بمسألة الكفاءة.
(كفاءة الرجل للزواج من امرأة معيّنة، يعتبر من الأحكام التوجيهية التي يجدر بالطرفين مراعاتها قبل الزواج، خاصة لجهة الدين والخلق. وهي ليست شرطاً لصحّة الزواج ولا للزومه عند المالكية. والمجلس يأخذ بهذا الرأي انسجاماً مع الأعراف السائدة في هذا العصر، ومع القوانين النافذة في الدول غير الإسلامية. لكنّه يؤكّد على الزوجة وأهلها ضرورة مراعاة هذه المسألة لضمان استقرار واستمرار الحياة الزوجية ولتحقيق المقاصد الشرعية وأهمّها بناء الأسرة المسلمة).