نظرات في سورة الانشراح
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ{1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ{3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ{4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ{7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{8}
شَرْحُ الغَرِيْبِ :
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ : الاستفهام تقريري أي قد شرحنا لك صدرك ، وشرح الصدر هو: اتساعه وانبساطه لكي يحتمل تكاليف الشريعة .
وقيل : هو شقه على يد المَلَكَين واستخراج حظ الشيطان منه ,كما ثبت في الصحيح.
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ : الوزر هو: الإثم والذنب.
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ : أجهده وآلمه لثقله .
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ : أي إذا فرغت من عمل أخروي أو دنيوي فبادر بنفسك الى عمل آخر لتكون حياتك حياة جادة فاعلة .
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي لتكون رغبتك وتفويضك الأمور كلها لله لا سواه .
هِدَايَة الآيَاتِ :
نزلت هذه السورةُ المكيّة المباركة امتناناً على الرسول الكريم, وتعداداً لبعض نعم الله عليه فكان أولاها:
نعمة انشراح الصدر لتحمل أعباء الرسالة ، والقيام بواجب البلاغ .
وهذا الانشراحُ جدُّ ضروري لضمان نجاح صاحب الرسالة في وظيفته ، ومضيه قُدماً في طريقها الشائك الطويل دون كلل أو ملل .
ذلك أنّ هذه الوظائف الخطيرة تتطلب جهداً خرافياً ونَفَساً طويلاً ، وصبراً جميلاً ، وإلا كانت قاصمة الظهر !!
إنّ طريقَ الرسالات ومدارجَ السالكين – دعوة وتعليماً – ملئ بالأشواك والعقبات الكؤود ، ولم يكن يوماً من الدهر مفروشاً بالرياحين والورود !
إنّه طريق مليء بالمخذلين والمثبطين ، والمتراجعين والمنهزمين ، فضلاً عن المعوقين كفراً وإلحاداً ونفاقاً !
طريق الرسالة مزدحمٌ بالمكائد والمؤامرات والظلم والعدوان مدلهم بالمخاطر والتخويف والتهديد بل بالحروب والدماء والأشلاء !.
فإذا لم يكن صاحبُ الرسالة قادراً على أداء المهمة بقناعةٍ ويقين ، وصبر وإقدام ، فإنّه سيضر أكثر ممّا ينفع!
ولذا كان انشراح صدر المصطفى لهذه المهمة ضرورياً بل من أشد الضرورات أهمية, ذلك أنّه يحمل عبء رسالة خاتمة عامة لكل المكلفين من الثقلين .
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ) وهي منةٌ أخرى ، ونعمةٌ كبرى ، وبشارةٌ عظمى بوضع الذنوب والأوزار ، والتخلص من الآثام ، والآصار ، حتى ينطلق الرسول الخاتم خفيف الظهر مطمئن القلب !
وهذان عاملان مهمان لانجاح الرسالة وضمان ديمومتها واستمراريتها .
وهاهنا وقفتان :
الأولى : هل الرسول المعصوم تقع منه الذنوب والمعاصي ؟
والجواب : أمّا العصمة فهي ثابتة إجماعاً في مسألة التبليغ إذ لا يصح وقوع الخطأ أو الوهم في أداء الرسالة وتبليغها للناس وكذا الشرك ، وكبائر الذنوب قد عصم منها عليه السلام ، وأما الصغائر فهي واقعة بنص القرآن والسُنّة .
فأما القرآن فليس ثمة أصرح من قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ) الفتح (2)
وأما السُنّة فقد صحّ عند مسلم وغيره من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلّى حتى انتفخت قدماه فقيل له : أتكلف هذا ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً "
الثانية :
أنّ ذنوب نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع كونها صغائر ونادرة الوقوع إلا أنّ الله تعالى وصفها بأنها ناقضة لظهره الشريف أي ثقيلة الوزن ، غليظة الحمل بحيث أوهنت قواه ، وأثقلت كاهله فأزاحها الله عنه تكرماً وتفضلاً ، فكيف الحال إذاً بمن عاقر الكبائر ، وواقع المحرمات ،وركن إلى المعاصي والشهوات ؟!
كيف بمن تعاطى الربا ، وسفك الدماء ، وشرب المسكر ، وهتك العرض الحرام ؟!
كيف بمن بغى وتجاوز ، وأسرف وظلم ، واستمرأ كل رذيلة وعفّ عن كل فضيلة ؟!
أي ظهر هذا الذي يحمل كل هذه الطوام والذنوب العظام ؟
وأي كاهل هذا الذي كُلِّف ما تنوء عن حمله الجبال الشاهقات والقمم العاليات ؟!
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) : وهذه هي المنَة الثالثةُ في هذه السورة فقد أَشْهَرَ الله تعالى اسم هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وجعله متردداً على كلّ لسان ، فلا يذكر الله في شهادة أو أذان إلا ويذكر هذا النبي العظيم ، وهذه الهبة والكرامة ردٌّ على أولئك الشامتين الذين فرحوا بحرمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بقاء أولاده الذكور حيث لم يعش له سوى الإناث, ولله الحكمة البالغة !
إلا أنّ الذِكْر الحسن ، والثناء الجميل ، لا ينبغي أن يكونا هدفين أساسيين ، وغرضين ضروريين لأتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فالداعية والعالم والعابد ، ينبغي لكل منهم أن يجعل نصب عينيه رضا الله تعالى ، وقبوله للعمل ، وشكره للسعي, لا نيل الصيت والشهرة ، أو المديح والثناء فتلك نواقض الإخلاص وزلازله .
وأي قيمة للثناء والصيت ، وكثرة الذكر وذيوع الشهرة ، وقد سقط الداعية أو العالم أو العابد من عين الله ، ووكله إلى ما يؤمِّله من الحظِّ العاجل والعرض الزائل ؟!
ثم هل نجا أهلُ الصيت والشهرة من الحسد والشنئان وكثرة المتربصين والحاقدين ؟!
وهل اجتمع على حبهم الناس ، وصفا لهم ودّهم وعطفهم ؟!
إنّ ذلك لم يكن للأنبياء والمرسلين أو الصحابة والحواريين أفيكون لمن لا يبلغ عشر معشار ما بلغوه ووصلوه ؟!
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً : وفي هاتين الآيتين الكريمتين بشارة عظيمة بأنّ الله تعالى جاعل إزاء كل عُسرٍ يُسرين, ذلك أنّ (العُسر) مُعرفٌ بالألف واللام في الموضعين فهو شيءٌ واحد .
وأما ( اليُسر ) فقد جاء نكرة في الموضعين فهو شيئان اثنان وهذه قاعدة يعرفها النحويون !
وإذا كان الأمر كذلك فوابشراه! فلن يغلب عسرٌ يُسرين !!
وتلك والله حقيقةٌ لو أدركها العُلماءُ الرَّبانيون والدُعاةُ المخلصون، لما استوحشوا طول الطريق ، ولما أوهنتهم قوارع الفتن ، ولما أخافهم جموع المتربصين والحاقدين .
لقد تعسرت الدعوةُ في مكة ، وأبطأت تباشير الصباح ، وابتلى المسلمون في أنفسهم وأموالهم ، واحلولك ظلام الفتنة ، وبلغت القلوب الحناجر فما هو إلا أن أذن الله بالهجرة إلى طيبة الطيبة فإذا بالخوف ينقلب أمناً ، والضعف يصير قوة ، والذل يعود عزة ومنعة! .
وارتدتْ الأعرابُ عَقِبَ وفاة النّبي -صلى الله عليه وسلم- ومرجت عقول الناس ، واسوّدت المدينة بأهلها ، واختلف كبار الصحابة حول مبدأ قتال المرتدين وإنفاذ جيش أسامة الواقف على أسوار طيبة ، وفرح المنافقون ، وظن مرضى القلوب أنها قاصمة ظهر الإسلام ، وما هو إلا زمن يسير عادت فيه معالم الدين من جديد, وتوطدت أركان الدولة .
ورفرفت رايات التوحيد بأنحاء الجزيرة ، واجترّت فلول المتنبئين مرارة الهزيمة ، ولم يقف الأمر عند ذلك بل زحفت جحافل التوحيد نحو ديار العجم في فارس ، والعراق ، والشام ، واكتملت أقواس النصر فوق مملكتى كسرى وقيصر ، ولا عجب ألم يقل ربنا تعالى :( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً )
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة ، والمقام مقام تمثيل واستشهاد ، لا تفصيل وإطناب .
والمقصود أنّ على حملة الحقّ ودعاة التوحيد أن يستصحبوا هذه المعاني السامية ، وهم يخوضون غمار الدعوة ، وينطلقون في آفاق الدنيا يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله! .
على الدعاة المخلصين أن يتوقعوا العوائق والمثبطات والتضييق والتشريد ، وعليهم أن ينتظروا وأد المشروعات الدعوية في بداية إنشائها وأحياناً في منتصف الطريق ، وأخرى عند بدء جني الثمار! .
وعليهم أن يعتقدوا إمكانية غلق أبواب كثيرة من أبواب الخير فلا ييأسوا ، وليثقوا بقرب الفرج ، وأنّ مع العسر يسراً !
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ : وبعد تعداد بعض النعم وزفّ بعض البشائر جاء مسكُ الختام دعوة لهذا النبي الكريم بأنْ يظل دائم الصلة بفعل الخيرات ، وإرداف الطاعات بالطاعات ، فلا فراغ في حياة المؤمن الجاد فضلاً عن حامل لواء الرسالة -صلى الله عليه وسلم- .
وإنّ نَصَبَ العبادة أو الدعوة أو التعليم ليهون أمام عظم النتائج المتوقعة ، من جرّاء هذه الفضائل ، والخصال, فكم من الكفار سيُسلمون؟! وكم من العُصاة سيتوبون؟!
وكم من الجُهّال سيتعلمون؟!
حين ينتشر الدعاة في أوساط الجماهير ، ويتبوأ العلماء مجالسهم في حلق التعليم!
ناهيك عن الثواب الأخروي الذي لا ينقضي أو ينقطع في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
والرسول -صلى الله عليه وسلم- والداعية ، والعالم ، والمجاهد ، ورجل الحسبة ، وطالب العلم ، والعابد ، وغيرهم محتاجون احتياجاً ضرورياً ، أن يرغبوا إلى الله في عباداتهم ، ودعوتهم وتعليمهم ، وجهادهم ، واحتسابهم ، فالرغبة إلى الله شرط أساس في بلوغ المعالي وتحقيق التوحيد ، ونيل أعلى الدرجات والثناء الجميل !
فوائد الآيات :
1- امتنان الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بانشراح الصدر ومغفرة الذنوب ، ووضع الأوزار.
2- أنّ للذنوب خطراً عظيماً ، وثقلاً مُروّعاً ممّا يتطلب من الفطن الحصيف أن يبادر إلى التوبة النصوح والتخلص من شؤمها وقبح آثارها .
3- ارتفاع ذكر النّبي -صلى الله عليه وسلم- وخلوده ما بقيت الدنيا فضلاً من الله ونعمة.
4- البشارة بحصول التيسير إزاء كل عسير بل إنّ اليسار ليضعّف على الإعسار ضعفين .
5- في السورة أعظم زاد للدعاة وأهل العلم والغيرة بالّا يستوحشوا الطريق ، ويستصعبوا المهمة ، فإنّ الله جاعل لهم من كلّ همٍّ فرجاً!! .
6- إرشاد الآيات أصحاب الدعوات ، وأرباب المهمات الربّانية بضرورة مواصلة الجهود ، واعمار الأوقات بالباقيات الصالحات .
7- وجوب إفراد المسلم رغبته وصموده وتوجهه إلى الله وحده دون غيره