الانتخابات التي فضحت أقواما!
القول الجميل المنَّمق يقدر عليه كثير من النَّاس، ولكنَّ الفعل الجميل الموافق له يتخلف أحيانا، وأما الاعتقاد الجميل المطابق لهما فعزيز إلا ما رحم الله، وكلما زادت المفاهيم والقيم المادية في المجتمعات؛ زادت معها الأقوال الجميلة وتخلفت عنها الفعال والمعتقدات، وعين هذا الأمر حذر منه القرآن الكريم:( يَا أَيهَا الذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تفعلون * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) سورة الصف: 2 -3.
والانتخابات قيمة ليبرالية أساسية، ومن المنطقي أن تحظى كعملية ونتيجة بمباركة الأحزاب الليبرالية، التي كثيراً ما كتب وتحدث مفكروها عن حق النَّاس في الاختيار، وعن نضج المجتمعات، واستنكروا أي إجراء يشمون منه رائحة الوصاية على عقول الجماهير، وهكذا كانوا يقولون ويكتبون حتى جاء الرَّبيع العربي فكان خريفاً عليهم؛ إذ صرم كثيراً من المصداقية التي كانوا يتظاهرون بها.
وحين اختار النَّاخبون من يرونه الأصلح لقيادة مجتمعاتهم؛ صارت النَّتائج غصَّة في حلوق كثير من الليبراليين، فتواترت تصريحات وتعليقات بعضهم على ما يخالف حق الاختيار والتعبير عن الرأي الذي كانوا يدعون إليه، ونسفوا إحدى قيم الليبرالية الكبرى، وجعلوا أقوالهم المعسولة وحروفهم المتراقصة تحت أقدامهم، وقدموا للتَّاريخ وللأمة أقوى البراهين على زورهم؛ وعلى أنَّ أفكارهم لا تستند على مبدأ ثابت جدير بالتوقير.
لقد كشفت لنا هذه الانتخابات عن الحجم الحقيقي للعمق الليبرالي في المجتمعات الإسلامية خلافاً للصُّورة التي رسمها التَّهويل الإعلامي بسبب سيطرتهم على مؤسسات الإعلام والثقافة، حيث مارسوا فيها إقصاء من وما لا يروق لهم من مثقفين وآراء، وكانوا يصفون أنفسهم بأنهم صوت الصامتين المغلوبين على أمرهم، وأنَّ من عداهم- وخاصة الإسلاميين- جماعة قليلة منغلقة لا امتداد لها في وجدان الناس ولا أثر لهم في حياة المجتمع.
وأبانت العمليات الانتخابية في البلدان العربية عن قيمة المبادئ الليبرالية عند من يدعي الالتزام بها، وأوضحت عقيدة هؤلاء القوم في أبناء مجتمعهم؛ حين وصفوهم بالسَّذاجة وضعف العقول، والانقياد كالعميان خلف أي شعار ديني، وقد كانوا من قبل يأنفون من الوصاية فإذا بهم اليوم أباطرة الوصاية كما كانوا بالأمس أباطرة الإقصاء، وزادوا ضغثاً على إبالة بالاستعلاء على عامة الناس.
ولم تفضح صناديق الاقتراع المستوى الأخلاقي لكثير منهم فقط، بل كشفت ضحالة اهتمامهم بالتنمية، وعلاج الفقر، وتطوير المجتمع، والارتقاء بالتعليم والجيش والاقتصاد والصحة، فضلاً عن استقلال القضاء والإرادة السياسية، والسيادة الكاملة على الوطن ومقدراته. لقد كانت جل مآخذهم على الأحزاب الإسلامية الفائزة تدور حول الخمر والسينما ولباس المرأة والأقليات والمعاهدات مع اليهود، وما فطن الليبراليون أنهم حين يسألون هذه الأسئلة يسيئون لأنفسهم من جهتين، فهل هذه هي أهم شأن وطني يقلقكم؟ أولا تعلمون أنَّ النَّاخب اختار الإسلاميين وهو يعرف رأيهم في هذه المسائل ويثق في حسن تدبيرهم؟
ومن طُرف الليبرالين بعد الانتخابات الإدعاء السَّامج بأن هذه الأحزاب تلقت أموالاً من دول الخليج، وسماجة هذا الإدعاء تعود إلى أنَّه يشبه نظرية المؤامرة التي طالما انتقدوها ووصموا غيرهم بها، ومن المفترض أنَّ ليبرالي العرب يقرأون السياسة الخارجية لدول الخليج التي لا يرحب أغلبها بصعود التيار الإسلامي، فضلاً عن أنَّ هذه التهمة تشبه قول العرب: رمتني بدائها وانسلت! ولذا هرع بنو ليبرال لسيدتهم وسفاراتها ومؤسساتها يستصرخون ويطلبون الغوث، والله فوق الجميع يسمع ويرى وبه نستعين على مكرهم وكيدهم.
وقد فاز الإسلاميون بإنتخابات عدد من البلدان العربية، ولاشك أنَّهم الأوفر حظا للفوز بأي انتخابات نزيهة، فجموع النَّاخبين يريدون من يوقر دينهم ويحكم به، ويحرص على مصالحهم الدينية والدنيوية، ويثقون في أنَّ هاجسه عام لا خاص، ومصالحه عليا لا قاصرة، ونظراته استشرافية ثاقبة لا تدور في إطار الواقع المرير فقط، وقد حيل بين الناس وبين ممثليهم زمناً طويلا، وهاقد جاءت الفرصة لكي يثبت الفائزون أنَّهم الأجدر بثقة المتدين وغير المتدين، والأولى بصوت المثقف والعامي، والمستأمن على ضروريات وحاجيات المسلم وغيره, وإني ألمح في فوز هذه الأحزاب المباركة شيئاً من ظلال قول الله تعالى:
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد: 38، وجدير بإخواننا الفائزين أن يكونوا أهلاً لحمل هذه الأمانة الدينية والمسؤولية الدنيوية، وأن يصدقوا مع الله وينصحوا لشعوبهم، ويحذروا مكر أبالسة الأرض من منافقي الداخل ومجرمي الخارج.
كتبه : أحمد بن عبد المحسن العسَّاف