بقلم سيد قطب رحمه الله
1 كان من أغراض القصة إثبات الوحي و الرسالة . فمحمد صلى الله عليه و سلم لم يكن كاتباً و لا قارئاً ، و لا عرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود و النصارى ؛ ثم جاءت هذه القصص في القرآن و بعضها جاء في دقة و إسهاب كقصص إبراهيم و يوسف و موسى و عيسى . فورودها في القرآن اتخذ دليلاً على وحي يوحى ... والقرآن ينص على هذا الغرض نصَّاً في مقدمات القصص أو في أعقابها .
جاءت في أول سورة " يوسف " : " إنا أنزلناه قرآنا عربيَّاً لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين " .
و جاء في سورة القصص " قبل عرض قصة موسى : " نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " . و بعد انتهائها " و ما كنتَ بجانب الغرْبيّ إذ قضينا إلى موسى الأمرَ ، و ما كنتَ من الشاهدين ، و لكنا أنشأنا قروناً فتطاوَلَ عليهمُ العمرُ، و ما كنت ثاوياً في أهل مَدْيَنَ تتلو عليهم آياتنا ، و لكنا كنا مرسلين . و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا , و لكنْ رحمةً من ربك ، لتنذرَ قوماً ما أتاهم من نذير منْ قبلكَ لعلهم يتذكرون " .
و جاء في سورة " آل عمران " في مبدأ عرضه لقصة مريم : " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنتَ لديْهم إذ يُلقون أقلامَهم أيهم يكفلُ مريم ، و ما كنت لديهم إذ يختصمون " .
و جاء في سورة " ص " قبل عرض قصة آدم : " قل هو نَبأ عظيم ُ. أنتم عنه معرضون . ما كان ليَ منْ علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون . إنْ يُوحى إليَّ إلا إنَّما أنا نذير مبين . إذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بَشراً من طين ..." .
و جاء في سورة " هود " بعد قصة نوح : " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ، ما كنتَ تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " .
2 و كان من أغراض القصة : بيان أن الدين كله من عند الله ، من عهد نوح إلى عهد محمد . و أن المؤمنين كلهم أمة واحدة ، و الله الواحد رب الجميع ، و كثيراً ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في صورة واحدة ، معروضة بطريقة خاصة ، لتؤيد هذه الحقيقة . و لما كان هذا غرضاً أساسياً في الدعوة ، و في بناء التصور الإسلامي فقد تكرر مجيء هذه القصص ، على هذا النحو ، مع اختلاف في التعبير ، لتثبيت هذه الحقيقة و توكيدها في النفوس .
نضرب لذلك مثلاً ما جاء في سورة " الأنبياء " :
" و لقد آتينا موسى و هارونَ الفُرقان و ضياء و ذكراً للمتقين ، الذين يخشوْن ربهم بالغيب ، و هم من الساعةُ مشفقون . و هذا ذكرٌ مبارَك أنزلناه أفأنتم له منكرون ؟
" و لقد آتينا إبراهيمَ رُشْدَه من قبلُ ، و كنا به عالمين. إذ قال لأبيه و قومه : ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون ؟ قالوا : وجدْنا آباءنا لها عابدين " إلى قوله : " و أرادوا به كيْداً فجعلناهم الأخسرين ، و َنجيَّناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . و وهبنا له إسحاق و يعقوبَ نافلةً و كلاً جعلنا صالحين ، و جعلناهم أئمةً يَهدوُن بأمرنا ، و أوحينا إليهم فعلَ الخيرات ، و إقامَ الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و كانوا لنا عابدين .
3 و كان من أغراض القصة بيان أن الدين كله موحد الأساس فضلاً على أنه كله من عند إله واحد و تبعاً لهذا كانت ترد قصصَ كثير من الأنبياء مجتمعة كذلك . مكررة فيها العقيدة الأساسية ، و هي الأيمان بالله الواحد على نحو ما جاء في سورة " الأعراف " :
" لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فقال : يا قوم اعبدوا اللهَ ما لَكم من إله غيره ... إلخ " .
" و إلى عاد أخاهم هوداً " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ... إلخ"
فهذا التوحيد لأساس العقيدة ، يشترك فيه جميع الأنبياء في جميع الأديان ، و ترد قصصهم مجتمعة في هذا السياق . لتأكيد ذلك الغرض الخاص .
4 و كان من أغراض القصة بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة ؛ و أن استقبال قومهم لهم متشابه فضلاً على أن الدين من عند إله واحد ، و أنه قائم على أساس واحد و تبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة أيضاً ، مكررة فيها طريقة الدعوة . على نحو ما جاء في سورة " هود " .
" و لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه : إني لكم نذير مبين . ألا تعبدوا إلا الله . إني أخاف عليكم عذابَ يوم أليم . فقال الملأ الذين كفروا من قومه ، ما نَراك إلا بَشراً مثلنا ، و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذُلنا باديَ الرأي ، و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين " ... إلى أن يقول : " و يا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله ، و إلى أن يقولوا له : " يا نوحُ قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فائتنا بما تعدُنا إن كنت من الصادقين "... إلخ .
" و إلى ثمودَ أخاهم صالحاً ، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فاستغفروه ثم توبوا إليه . إن ربيً قريبٌ مجيب . قالوا : يا صالحُ ، قد كنتَ فينا مَرْجُواً قبل هذا . أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ، وإننا لفي شكّ مما تدعونا إليه مريب " ... إلخ .
5 و كان من أغراض القصة بيان الأصل المشترك بين دين محمد ودين إبراهيم بصفة خاصة ، ثم أديان بني إسرائيل بصفة عامة ؛ و إبراز أن هذا الاتصال أشد من الاتصال العام بين جميع الأديان . فتكررت الإشارة إلى هذا في قصص إبراهيم و موسى و عيسى :
"إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى" . " أم لم يُنبأ بما في صحف موسى و إبراهيم الذي و في . ألا تَزرُ وازرةٌ وزْرَ أخرى " . " إن أوْلى الناس بابراهيمَ للذين اتبعوه وهذا النبي و الذين آمنوا " . " ملةَ أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل " . " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، و هدى و موعظة للمتقين ... " إلى أن يقول : " و أنزلنا إليك الكتابَ بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، و مُهيمناً عليه " .
6 و كان من أغراض القصة بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية و يهلك المكذبين ، و ذلك تثبيتاً لمحمد ، و تأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان : " و كلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادَك . و جاءك في هذه الحق و موعظةٌ و ذكرى للمؤمنين " . و تبعاً لهذا الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة ، مختومة بمصارع من كذبوهم . و يتكرر بهذا عرض القصص كما جاء في سورة " العنكبوت " :
" و لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فَلبثَ فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان و هم ظالمون ، فأنجيناه و أصحابَ السفينة ، و جعلناها آية للعالمين " .
وإبراهيمَ إذ قال لقومه : اعبدوا الله واتقوه ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ... " إلى أن يقول : " فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا : اقتلوه أو حرّقوه . فأنجاه الله من النار . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون "... إلخ .
" فكلاً أخذْنا بذنبه . فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، و منهم من أخذته الصيحةُ ، و منهم من خسفنا به الأرض ، و منهم من أغرقنا . و ما كان الله ليظلمهم ، و لكن كانوا أنفسهم يَظلمون " . و تلك هي النهاية الواحدة للمكذبين .
7 و كان من أغراض القصة تصديق التبشير و التحذير ، و عرض نموذج واقع من هذا التصديق ، كالذي جاء في سورة " الحجر " :
" نَبئ عبادي أني أنا الغفورُ الرحيمُ ، و أن عذابي هو العذاب الأليم ... " فتصديقاً لهذا و ذلك ، جاءت القصص على النحو التالي :
" و نبَئهم عن ضيف إبراهيم ، إذ دخلوا عليه ، فقالوا : سلاماً . قال : إنَّا منكن وجلون . قالوا : لا توْجَلْ . إنا نبشرك بغلام عليم "... إلخ . و في هذه القصة تبدو " الرحمة " .
ثم : " فلما جاء ألَ لوط المرسلون . قال إنكم قومٌ منكرون . قالوا : بل جئناك بما كانوا فيه يَمترون ، و أتيناك بالحق و إنا لَصادقون . فأسرِ بأهلك بقطع من الليل ، و اتبّعْ أدبارهم ، و لا يلتفتْ منكم أحدٌ ، و امضوا حيث تُؤمرون . و قضينا إليه ذلك الأمرَ : أن دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مٌصبْحين ..." و في هذه القصة تبدو " الرحمة " في جانب لوط، و يبدو " العذاب الأليم " في جانب قومه المهلكين .
8 و كان من أغراض القصة بيان نعمة الله على أنبيائه و أصفيائه ، كقصص سليمان و داود و أيوب و إبراهيم و مريم و عيسى و زكريا و يونس و موسى ، فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى ، و يكون إبرازها هو الغرض الأول ، و ما سواه يأتي في هذا الموضع عرضاً .
9 و كان من أغراض القصة ، تنبيه أبناء أدم إلى غواية الشيطان ، و إبراز العداوة الخالدة بينه و بينهم منذ أبيهم آدم ، و إبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع و أقوى ، وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر، و إسنادها إلى هذا العدو الذي لا يريد بالناس الخير!
و لما كان هذا موضوعاً خالداً ، فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى .
10 وكان للقصة أغراض أخرى متفرقة : منها :
بيان قدرة الله على الخوارق : كقصة خلق آدم ، و قصة مولد عيسى . و قصة إبراهيم و الطير الذي آبَ إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءاً . و قصة " الذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها " . و قد أحياه الله بعد موته مائة عام .
و بيان عاقبة الطيبة و الصلاح ، و عاقبة الشر و الإفساد . كقصة ابني آدم . و قصة صاحب الجنتين . و قصص بني إسرائيل بعد عصيانهم . و قصة صد مأرب . و قصة أصحاب الأخدود .
و بيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة ، و الحكمة الإلهية البعيدة الغيبة . كقصة موسى مع "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدُنا علماً " وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة أخرى .
إلى آخر هذه الأغراض التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها .
----------------------------------
المصدر :
التصوير الفني في القرآن .