الحرصُ على حسنِ المظهرِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد :
روى مسلم في " صحيحه " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ "، قَالَ رَجُلٌ : " إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ؟ "، قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ : بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " .
فالله سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده؛ فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها، ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباساً وزينة تجمل ظواهرهم، وتقوى تجمل بواطنهم فقال : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف/26] ، وقال في أهل الجنة : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان/11، 12]، فجمل وجوههم بالنظرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير، وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيأة يبغض القبيح من الأقوال، والأفعال، والثياب، والهيأة، فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله . " الفوائد " لابن القيم (ص184).
وروى الإمام أحمد وهو حسن بشواهده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ "، فَقَالَ رَجُلٌ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا وَرَأْسِي دَهِينًا وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا ؟ "، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلَاقَةَ سَوْطِهِ " أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ "، قَالَ : " لَا، ذَاكَ الْجَمَالُ؛ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ " .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وَاَلَّذِي يَجْتَمِع مِنْ الْأَدِلَّة : أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالْمَلْبُوسِ الْحَسَن إِظْهَار نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا لَهَا، شَاكِرًا عَلَيْهَا، غَيْر مُحْتَقِر لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْله لَا يَضُرّهُ مَا لَبِسَ مِنْ الْمُبَاحَات وَلَوْ كَانَ فِي غَايَة النَّفَاسَة " . أ . هـ . " فتح الباري " (10/259)
وجماله سبحانه على أربع مراتب : جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة، ومصلحة، وعدل، ورحمة .
وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلي من أكرمه من عباده، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار كما قال رسوله فيما يحكى عنه : " الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي " . " الفوائد " (ص182)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فَقَوْلُهُ " إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجِمَالَ " قَدْ أَدْرَجَ فِيهِ حُسْنَ الثِّيَابِ الَّتِي هِيَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمِيلَ مِنْ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى : الْجَمِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ " إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ "، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " : " إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا "، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْت هَذِهِ تَلْبَسُهَا ؟ "، فَقَالَ : " إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ "، وَهَذَا يُوَافِقُهُ فِي حُسْنِ الثِّيَابِ مَا فِي " السُّنَنِ " عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الجشمي قَالَ : رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ أَطْمَارٌ، فَقَالَ : " هَلْ لَك مِنْ مَالٍ ؟ "، قُلْت : " نَعَمْ "، قَالَ : " مِنْ أَيِّ الْمَالِ ؟ "، قُلْت : " مِنْ كُلِّ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ "، قَالَ : " فَلْتَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْك وَكَرَامَتَهُ عَلَيْك "، وَفِيهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ "، لَكِنَّ هَذَا لِظُهُورِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُكْرِهِ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ؛ وَذَلِكَ لِمَحَبَّةِ الْجَمَالِ ". أ . هـ .
روى أبو داود وغيره بسند صحيح عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ : " أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ ؟! "، وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ : " أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ " .
قال الإمام السفاريني رحمه الله : " يُسَنُّ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا .
وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا *** وَيُكْرَهُ مَعَ طَوْلِ الْغِنَى لُبْسُك الرَّدِي
" وَيَحْسُنُ " أَيْ : يُسَنُّ وَيُنْدَبُ " تَنْظِيفُ " أَيْ : إزَالَةُ وَسَخِ " الثِّيَابِ " كُلِّهَا مِنْ قَمِيصٍ، وَرِدَاءٍ، وَإِزَارٍ، وَسَرَاوِيلَ، وَعِمَامَةٍ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : " مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْت أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ، وَشَعْرِ رَأْسِهِ، وَبَدَنِهِ، وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا، وَأَشَدَّهُ بَيَاضًا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنه " . أ . هـ . " غذاء الألباب شرح منظومة الآداب " (2/202) مختصراً
يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الثَّوْبِ إذَا تَوَسَّخَ وَإِصْلَاحُ الشَّعْرِ . " المجموع " (4/397)
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله : " " شَعِثًا " بِفَتْحٍ فَكَسْر فِي الْفَارِسِيَّة " قَدْ تَفَرَّقَ شَعْره " هَذَا تَفْسِير لِقَوْلِهِ شَعِثًا " أَمَا كَانَ " " مَا " نَافِيَة، أَيْ : أَلَمْ يَكُنْ " هَذَا " يَعْنِي : الرَّجُل الشَّعِث " مَا يُسَكِّن بِهِ شَعْره " أَيْ : مَا يَلُمّ شَعَثه وَيَجْمَع تَفَرُّقه، فَعَبَّرَ بِالتَّسْكِينِ عَنْهُ " وَعَلَيْهِ ثِيَاب وَسِخَة " بِفَتْحٍ فَكَسْر، قَالَ فِي " الْقَامُوس " : " وَسِخَ الثَّوْب كَوَجِلَ يَوْسَخ وَدَنِئَ وَاتَّسَخَ عَلَاهُ الدَّرَن، " مَا يَغْسِل بِهِ ثَوْبه " أَيْ : مِنْ الصَّابُون أَوْ الْأُشْنَان أَوْ نَفْس الْمَاء، وَفِي بَعْض النُّسَخ " مَاء يُغْسَل بِهِ ثَوْبه " بِالْمَدِّ وَالتَّنْوِين .
وَفِي الْحَدِيث : اِسْتِحْبَاب تَنْظِيف شَعْر الرَّأْس بِالْغُسْلِ، وَالتَّرْجِيل بِالزَّيْتِ وَنَحْوه، وَفِيهِ طَلَب النَّظَافَة مِنْ الْأَوْسَاخ الظَّاهِرَة عَلَى الثَّوْب وَالْبَدَن " . أ . هـ . " عون المعبود " (11/76)
وصل الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين .
http://www.sunnah.org.sa/ar/sunnah