قيل فيما قيل انه يحكى أنه في قديم الزمان أو آخره, أو ربما في هدا الزمان أنه فوق شاطئ هادئ كان يرسى قارب صغير مشدود بحبل متين, يتمايل فوق أمواج الشاطئ مرة على شمال وتارة على يمين. تسطع فيه أشعة الشمس فتنعشه و تدغدغه أمواج البحر فتفرحه, تقسو عليه الرياح أحيانا و تدمعه الأمطار أحيانا, و تألمه الصواعق مرات عدة , لكنه كان يحي في سلام .............حتى يوم رصت بجانبه غواصة أبهرته فخامتها و أدهشته متانتها , تصدقا و صارت الغواصة وينسه الوحيد كانت تصغي إليه باستمرار , وهو ينبهر بها يوما بعد يوم.
و في أحد الأيام قالت الغواصة للقارب أن أحلامك صغيرة و طموحاتك أصغر , لما لا تأتي معي لأعماق المحيطات , لما تكتفي دوما لنظر إلى السمك الصغير الذي يقع في شباك الصياد, لما لا ترحل معي لترى إبداع الخلاق في خلقه للمحيطات وتتمتع بجمال الألوان و الأنواع , ستروق لك الحياة معي , لما تحجز نفسك في هدا الشاطئ الكئيب , كي تبقى مداس يلعب فيه أولاد , و عش لنو ارس واللقالق.
فأجاب القارب: لكن كيف لي أن أغوص ؟ أنا لست مثلك و لا بقوتك و لا بخبرتك ,حتما سأغرق.
فردت عليه غواصة : و لما تخاف من الغرق و أنت بحمايتي , و ستكون تحت رعايتي سأمسك بيدك و لا أتركك أبدا .
فقال القارب: لكني أخاف أن أغرق.
فأجابته الغواصة: لما الخوف و أنا معك , و سأكون المسؤولة عن حياتك .....لا تخف أترك نفسك لي و سترى كيف سأغير حياتك.
ابتسم القارب ابتسامة حب فرحة و وئام .
فقالت له الغواصة بكل حنان : هيا مزق هدا الحبل المتين , الذي يقيد حياتك الذي يأسرك و يمنعك أن تعيش أرسلني الله كي أحرر أسرك كي أسعدك , كي أعلمك كيف تعيش.
وقطع القارب الحبل فهزته الرياح من جهة و الأمواج من جهة فارتبك و خاف حتى نطقت الغواصة.
الغواصة: لا تخف يا ملاكي الصغير هده يدي تمسك بها تثبت بها أبدا لن أتركك ستكون مصيري, ونعمة مصير.
و أمسكت الغواصة بيد القارب الصغير و غاصت بيه في قاع المحيطات , فاندهش لإبداع الخالق و أسرار الأعماق اندهش و انتعش , و كأنه في حلم يسبح وسط الخيال , آه كم أضاع هدا الصغير من عمره و هو مربوط بدالك الحبل العتيق الذي حرمه من كل متعة ..............آه كم يعشق هاته الغواصة التي حررت أسره و أدخلته هدا العالم الجميل , سيكون منون لها مدى الحياة .................و راح و تاه وسط هدا الحلم الجميل و العالم الساحر و هو كله نشوة حتى انقلبت نشوته إلى حسرة لما تركت الغواصة يده , و بدأ يغرق ....يصرخ .....يستنجد من الغواصة , لكنها لم تحرك ساكنة ........ناداها .......ترجاها لكن لا حياة لمن تنادي.
قال لها : لما تركتي يدي يا عزيزتي ألم تتعهدي بحمايتي.
فابتسمت الغواصة ضاحكة: يالك من ساذج صغير , فكيف لقارب مثلك يغوص داخل هدا البحر كبير.
فقال القارب: لكنكي قلتي لي تشبث بيدي و لا تتركها؟
فازدادت ضحكات الغواصة : يا لك من غبي مسكين , أنا مصنوعة من فولاذ و أنت مصنوع من فلين ...........بمجرد أن أضع يدي في يدك...........تحطم يدي يدك ................يا لك من مغفل مسكين.
فرد القارب باكيا: لكنكي وعدتني لما تغير كلامك ؟ و تغيرت نظراتك لما تركتني للغرق .................لما فعلت هدا بي لما جعلتني أمزق حبلي متين ...........لما آتيتي بي للموت؟
أجابته الغواصة : هده غلطة الجميع ...........ننسج لهم أحلام من خيوط العنكبوت , ينبهرون بها ويعيشونها لكن أهون الخيوط لهو نسيج العنكبوت..............ثم يلقون لوم علينا .........أين كان عقلك أي كان يقينك .....أين...............ليست غلطتي بل غلطتك أنت أحمق و الحمق داء ليس له دواء ...........فأغرق الآن لأنك لم تستخدم عقلك لأنك استلمت لعواطفك.
فأجابها القارب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : شكرا عزيزتي على حلم جميل ’ ولا تنسي أنه رغم جبروتك سينفد منك الوقود يوما و ستغرقين مثلي ....فأنا من خشب سأغرق و أغرق كي أطفو بعدها على سطح ....أما أنت من حديد ستغرق ثم تغرق كي ترسى في أعماق الأعماق .
قهقهت الغواصة و قالت : و ما الفرق أيها الغبي كلانا سنصبح مجرد ذكرى.
فأجاب القارب بابتسامة موت آملة: بل العكس أنا سأصعد لنور و أصبح ذكرى في نور ....و أنت ستغصين في ظلام كي تبقين ذكرى في ظلام ............أنا ستلوح بي الرياح و أنت ستسكنك الأشباح........أنا سأرجع في نهاية لشاطئ رغم أني سأكون محطم الأشلاء لكن حتما سأجد من يلملم أشلائي و يعاود إصلاحي .............ربما لن يستطيع أن يرجعني قارب ...ربما سيحولني لصندوق المهم سأكون نافع إن لم يكن لنفسي سأنفع غيري ......أما أنت فستصدئين و تأكلك الأملاح حتى تصبحين مجرد سراب.
بقلمي