الضياء في الرد على من أجاز العناق بين الإخوة عند كل لقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و كفى و سلامعلى عباده الذين اصطفى، والصلاة و السلام على نبيّ الهدى محمد ابن عبد اللهصلىّ الله عليه و على آله و سلم. و بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلىّ الله عليه و سلم و شرُّ الأمور محدثاتها و كلمحدثت بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النّار. أما بعد؛
فقد انتشرت ظاهرة المعانقة في زمننا هذا زمن الغربة الثانيةفأصبح الإخوةكلّما التقى بعضهم ببعض تعانقوا، بل و جعلوا العناق ثلاث مرات فإذا استفسرتقالوا "
إن الله وتر يحب الوتر"(1). ظلمات بعضها فوق بعض، و إلى الله المشتكى و هو حسبنا و نعم الوكيل.
سئل الشيخ العلامة الأصولي ابن عثيمين رحمه الله: هل الإنسان يقطع كل شيء على وتر ؟
فأجاب :[ فإذا أكل نقول له : اقطع ثلاث لقمات ، فهذا غير مشروع ، ومن قالإن هذا سنة؟!، وعندما يحب أن يزيد من الطيب فيقول أوتر ، ولكن هذا لا أصلله.
فأنا لا أعلم أن الإنسان مطلوب منه أن يوتر في مثل هذه الأمور ، فأما قولالرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله وتر يحب الوتر " ، فليس على عمومه ،لكنه عزوجل وتر يحكم شرعا أو قدرا بوتر ، فمثلا الصلاة وتر في الليل نختمهبوتر التطوع ، وفي النهار نختمه بوتر المغرب ، وأيام الأسبوع وتر ،والسموات وتر ، والأرض وتر ، فيخلق الله عزوجل ما يشاء على وتر ، ويحكم بمايشاء على وتر ، وليس المراد بالحديث أن كل وتر فإنه محبوب إلى الله عزوجل ،وإلا لقلنا احسب خطواتك من بيتك إلى المسجد لتقطعها على وتر ، احسب التمرالذي تأكله على وتر ، واحسب الشاي الذي تشربه على وتر ، وكل شيء احسبه علىوتر؛ فلا أعلم أنه مشروع.]. [ دروس وفتاوى في الحرم المكي].
قلت : أما ما جاء مقيدا بعدد فنقيده، كالشرب مثلا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه كان يشرب في ثلاث أنفاس(2).
وسئل الشيخُ العلامة الألباني – رحمه الله – : هل المعانقة تكون ثلاثا ؟
فأجاب : هذا ليس له أصل ، بل المعانقة ليس لها نظام .
[سلسلة الهدى والنور – شريط رقم 192]
وسئل الشيخ العلامة عبد المحسن العباد – حفظه الله: المعانقة هل تكون مرة أو ثلاث مرات ؟
فأجاب : ما نعلم تحديدا لذلك ، سواء كانت مرة أو مرتين ، وأما كونها تكرر وتردد فلا أعلم فيه شيئا ، لكن تحصل بمرة أو مرتين .
[شرح سنن أبي داود – شريط رقم 369]
و بعد ضحد هذه الشبهة، نقول و بالله نستعين:
عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "
إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه و أخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر "(3).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "
ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ". (4).
فالمشروع عند اللقاء هو السلام والمصافحة بالأيدي ،و إذا قدم الإنسان من سفر فتشرع معانقته لحديث أنس رضي الله عنه : "
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا ؛ تصافحوا ، فإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا "(5). و كذلك ما رواه البيهقيبسند صحيح عن الشعبي : "
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا ؛ صافحوا ، فإذا قدموا من سفر ؛ عانق بعضهم بعضاً "(6).
وأما التقبيل و المعانقة عند كل لقاء فليس من سنة السلام
قال حميد بن زنجوية:
قد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن المعانقة والتقبيل ،وجاء أنه عانق جعفر بن أبي طالب ، وقبله فأما المكروه من المعانقة والتقبيل، فما كان على وجه الملق والتعظيم ، وفي الحضر ، فأما المأذون فيه ، فعندالتوديع ، وعند القدوم من السفر ، وطول العهد بالصاحب ، وشدة الحب في الله. ومن قبل ، فلا يقبل الفم ، ولكن اليد والرأس والجبهة ، وإنما كره ذلك فيالحضر فيما يرى ، لأنه يكثر ، ولا يستوجبه كل أحد ، فإن فعله الرجل ببعضالناس دون بعض ، وجد عليه الذين تركهم ، وظنوا أنه قد قصر بحقوقهم وآثرعليهم .
شرح السنة للبغوي [13/293]
قال النووي رحمه الله :
" وأما المعانقة وتقبيل وجه غير القادم من سفر ونحوه ـ غير الطفل ـفمكروهان ، صرح بكراهتهما البغوي وغيره ...فأما الأمرد الحسن فيحرم بكل حالتقبيله سواء قدم من سفر أم لا ، والظاهر أن معانقته قريبة من تقبيله ،وسواء كان المقبِّل والمقبَّل صالحين أو غيرهما ".
انتهى من "المجموع" (4/477) .
قلت : الأمرد هو اللذي لا ينبت له شعر اللحية و قوله الحسن أي الحسن الوجه و الله أعلم.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هناك ظاهرة تقبيل الشباب بعضهم البعض على الخدود في كل ملتقى ، وفي كل يوم، وانتشرت هذه الظاهرة مع الشيوخ وفي المسجد وفي الصف ، هل هذا مخالفللسنة أم لا حرج فيه أم بدعة أم معصية أم جائزة ... ؟
فأجابوا : " المشروع عند اللقاء : السلام والمصافحة بالأيدي ، وإن كاناللقاء بعد سفر فيشرع كذلك المعانقة ؛ لما ثبت عن أنس رضي الله عنه قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا ، وإذا قدموا منسفر تعانقوا . وأما تقبيل الخدود فلا نعلم في السنة ما يدل عليه " انتهى
وروى البخاري في الأدب المفرد، وأحمد عن جابر بن عبد الله قال :
(
بلغني حديث عن رجلٍ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيراً ، ثمّ شددتُ عليه رحلي ،فسرتُ إليه شهراًحتى قدمتُ عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبـواب : قل له : جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟ قلتُ : نعم . فخرج يطأ ثوبهفاعتنقني واعتنقته . . ) (7) الحديث.
و يزيد البعض عنادا قائلا أن البخاري رحمه الله جعل في صحيحه بابا فسماه: " باب المعانقة و قول الرجل كيف أصبحت" حتى يستدل على فعله، و لكن هيهات :
* "
باب المعانقة و قول الرجل كيف أصبحت"
"[ 5911 ] حدثنا إسحاق أخبرنا بشر بن شعيب حدثني أبي عن الزهري قال أخبرنيعبد الله بن كعب أن عبد الله بن عباس أخبره أن عليا يعني بن أبي طالب خرجمن عند النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنايونس عن بن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن عباسأخبره أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه خرج من عند النبي صلى اللهعليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه فقال الناس يا أبا الحسن كيف أصبح رسولالله صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا
فأخذ بيده العباسفقال ألا تراه أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، والله إني لأرى رسول اللهصلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلبالموت فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن يكون الأمرفإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا قال علي واللهلئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداوإني لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا ".
هذا هو الحديث فأين هي المعانقة ؟ بل الذي ينصُّ عليه هذا الحديث يطابق ما جاء في حديث أنس، و هو قوله : فأخد بيده العبّاس .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في " فتح الباري " معلقا على هذا الحديث:
قوله باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت كذا للأكثر
وسقط لفظ المعانقةواو العطف من رواية النسفي ومن رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي وضرب عليها الدمياطي في أصله
[ 5911 ] قال بن بطال عن المهلب ترجم للمعانقة ولم يذكرها في الباب وانماأراد أن يدخل فيه معانقة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن الحديث الذي تقدمذكره في باب ما ذكر من الأسواق في كتاب البيوع فلم يجد له سندا غير السندالأول فمات قبل أن يكتب فيه شيئا فبقي الباب فارغا من ذكر المعانقة وكانبعده باب قول الرجل كيف أصبحت وفيه حديث علي فلما وجد ناسخ الكتابالترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثا وفي الكتاب مواضعمن الأبواب فارغة لم يدرك أن يتمها بالأحاديث منها في كتاب الجهاد انتهىوفي جزمه بذلك نظر والذي يظهر أنه أراد ما أخرجه في الأدب المفرد فإنه ترجمفيه باب المعانقة وأورد فيه حديث جابر أنه بلغه حديث عن رجل من الصحابةقال فابتعت بعيرا فشددت إليه رحلي شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بنأنيس فبعثت إليه فخرج فاعتنقني واعتنقته الحديث فهذا أولى بمراده. وقد ذكرطرفا منه في كتاب العلم معلقا فقال ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر فيحديث واحد وتقدم الكلام على سنده هناك وأما جزمه بأنه لم يجد لحديث أبيهريرة سند ا آخر ففيه نظر لأنه أورده في كتاب اللباس بسند آخر وعلقه فيمناقب الحسن فقال وقال نافع بن جبير عن أبي هريرة فذكر طرفا منه فلو كانأراد ذكره لعلق منه موضع حاجته أيضا بحذف أكثر السند أو بعضه كأن يقول وقالأبو هريرة أو قال عبيد الله بن أبي يزيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرةوأما قوله أنهما ترجمتان خلت الأولى عن الحديث فضمهما الناسخ فإنه محتملولكن في الجزم به نظر وقد ذكرت في المقدمة عن أبي ذر راوي الكتاب ما يؤيدما ذكره من أن بعض من سمع الكتاب كان يضم بعض التراجم إلى بعض ويسد البياضوهي قاعدة يفزع إليها عند العجز عن تطبيق الحديث على الترجمة ويؤيده إسقاطلفظ المعانقة من رواية من ذكرنا وقد ترجم في الأدب باب كيف أصبحت وأورد فيهحديث بن عباس المذكور وأفرد باب المعانقة عن هذا الباب وأورد فيه حديثجابر كما ذكرت وقوى بن التين ما قال بن بطال بأنه وقع عنده في رواية بابالمعانقة قول الرجل كيف أصبحت بغير واو فدل على أنهما ترجمتان وقد أخذ بنجماعة كلام بن بطال جازما به واختصره وزاد عليه فقال ترجم بالمعانقة ولميذكرها وإنما ذكرها في كتاب البيوع وكأنه ترجم ولم يتفق له حديث يوافقه فيالمعنى ولا طريق آخر لسند معانقة الحسن ولم ير أن يرويه بذلك السند لأنهليس من عادته إعادة السند الواحد أو لعله أخذ المعانقة من عادتهم عند قولهمكيف أصبحت فاكتفى بكيف أصبحت لاقتران المعانقة به عادة قلت وقد قدمتالجواب عن الاحتمالين الأولين وأما الاحتمال الأخير فدعوى العادة تحتاج إلىدليل وقد أورد البخاري في الأدب المفرد في باب كيف أصبحت حديث محمود بنلبيد أن سعد بن معاذ لما أصيب أكحله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مربه يقول كيف أصبحت الحديث وليس فيه للمعانقة ذكر.
(انتهى كلام ابن حجر رحمه الله)
فالله نسأل الهدى و التقى و العفاف و الغنى، و أن يحبب إلينا محبوباته و أن يكره إلينا ما دونها، قال الله تعالى {
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم } (
، و قالرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم::"
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "(9).
قال الله تعالى {
و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا}10، و سبيل المؤمنين ـ أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هو ما جاء في الحديث الثابت عن أنس رضي الله عنه، الذي قال فيه "
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا ، فإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا ".
فيكفينا ما كفاهم و يسعنا ما وسعهم.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
"
إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع ، ولن نضل ما إن تمسكنا بالأثر " 11.
و الله أسأل أن ييسر ما قصدت، و أن يدلل ما أردت إنه على كل شيء قدير
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما مزيدا
و الله تعالى أعلم
___________________________________________